بلا حب

تتناول الغذاء معه بينما يتحدث؛ يحكي لها عن يومه. تنبهت على صوته يقول:

- فما رأيك؟

حاولت أن تداري عدم انتباهها فأجابت قائلة:

- آسفة...لم أسمع الجملة الأخيرة فأنا لم أنم جيداً بالأمس.

ابتسم وأعاد نفس القصة مرةً أخرى. هو يعلم أنها لم تسمع شيئاً مما قال، وليس فقط الجملة الأخيرة، إلا أنه يحاول أن يختلق لها الأعذار دائماً.

استيقظت في صباح اليوم التالي على صوت الهاتف. سحبت المحمول ونظرت لترى من المتصل بعينين نصف مفتوحتين. إنه هو. وضعت المحمول مكانه وأكملت نومها.

في العمل، في وقتٍ متأخرٍ، أجابت على هاتفها قائلة:

- آسفة، مضطرة لإلغاء معادنا اليوم. لدي الكثير من العمل لإنجازه.

ثم أنهت المكالمة سريعاً، دون انتظار الرد.

نظرت إليها صديقتها على المكتب المجاور قائلة:

- تلغين موعدك مع خطيبك كثيراً بسبب العمل. أنا على استعداد أن أقوم ببعض المهام الموكلة إليك واذهبي أنت اليوم. 

- شكراً للعرض ولكن لا داعي لذلك. العمل أهم.

- العمل أهم من خطيبك؟! ألا تحبينه؟

- صمتت قليلا ثم قالت: لا أشعر تجاهه بمشاعر محددة. لا شيء.

- لا شيء؟! كيف هذا؟ من المؤكد أنك تشعرين بشيءٍ ما ... ثم ألست أنت من اخترتينه؟

- لهذا السبب تحديداً اخترته... لأنه يحبني وأنا لا أكرهه. هو يبذل كل ما في وسعه لإرضائي، ويغفر لي زلاتي، ويسامحني إذا أغضبته، بل إنه حتى يتجاهل برودي تجاهه. 

- وأنت؟

- أنا مرتاحة في هذه العلاقة إلى أقصى درجة. لا أتألم ، ولا اشتاق، ولا أتشاجر، ولا أخشى أن يهجرني أو أن يخونني. لا أحمل عبء الخوف من أن أغضبه، ولا أحمل هم رد فعله. لا أتعذب بتلك اللهفة وأنا أتصفح التليفون كل بضع دقائق في انتظار أن يتذكرني ويتصل بي، ولا أرهق فكري بكل تلك التساؤلات عما إذا كان يفتقدني كما افتقده أو هل سيهتم بمصالحتي إذا غضبت. على العكس تماماً؛ أنا سيدة الموقف وصاحبة القرار. أنا من أرد على الهاتف، فقط إذا أردت، وأتجاهل الاتصال حين لا أرغب في الكلام لأنني لا أشعر أنني افتقد شيئاً إذا فاتتني تلك المكالمة. لن تتخيلي الفرق الكبير الذي أشعر به في تلك العلاقة. كل تلك الأعباء النفسية لم تعد موجودة. الحياة أسهل بكثير؛ لا توقعات، ولا إحباطات، ولا خلافات، ولا مشاعر متضاربة وانفعالات عاطفية. 

- وما المتعة في اللاشىء؟! كل تلك المشاعر بقدر ما تجلب الأمل، تجلب السعادة. لها مذاقٌ خاص.

- نظرت إليها بسخرية قائلة: إذا كنت على استعداد لتحمل تبعاتها ومرارتها، فهنيئاً لك! أنا لم أعد على استعداد لمقاساة آلام الحب مرةً أخرى والاضطرار للتضحية والعطاء، الذي يستنفذ كل طاقتي ويتركني بقايا إنسان. سئمت السهر والتفكير والشوق الذي يقف عائقاً بيني وبين تقدمي في حياتي وعملي. سئمت معاملة الرجال القاسية، واستعبادهم لنا، وخضوعنا لهم بدافع الحب، وسئمت النهاية الفاشلة في كل مرة؛ الهجر بعد كل هذا الحب.

- وكيف ستعيشين مع رجل لا تحبينه؟! ستسأمين تلك الحياة الباردة، الخالية من المشاعر.

- وربما أحبها. ربما أحب حبه لي وحياتي الهادئة المستقرة؛ بلا انفعالات عاطفية، ولا مخاوف على مصير ذلك الحب ولا على ضياعه. ربما أحب أنني امتلكت كل شيء؛ الرجل المحب، وتركيزي في عملي وتقدمي فيه، واستقراري العاطفي، وأنني دائماً متحكمة في مشاعري وبالتالي متحكمة في قراراتي. بالتأكيد سوف أحب حريتي، فالحب قيدٌ ثقيل أرغب في التحرر منه.

- وماذا عنه هو؟ ألا يستحق أن يرتبط بإنسانة تحبه؟ ثم من أدراكي أنه سيقوى على العطاء هكذا بلا مقابل؟ ربما يستنفذ ذلك طاقته ويقرر أنه لن يستطيع الاستمرار هكذا.

- ربما. كل شيء في الحياة له نهاية؛ المشاعر والعطاء والإرادة والحب...في كل الأحوال ستأتي النهاية سواء تزوجنا عن حب أم لا. حينها، نختار إما الاستمرار في ذلك الطريق الذي اخترناه منذ البداية أو وضع كلمة النهاية على القصة...وبعدها تبدأ قصةٌ أخرى.

رن جرس الهاتف. نظرت إلى الشاشة فرأت اسمه. جعلت المحمول على وضعية الصمت ثم أكملت عملها.

 

 


Comments

Popular posts from this blog

Coincidence By The River

حين ألتقت الأعين

حوار مع الله 2