وفي كل يوم...أمل يولد ويموت

 بعد أن حاول النوم على جانبه الأيمن ثم الأيسر وباءت كل محاولاته بالفشل، جلس في السرير متنهداً. شرد بفكره بعيداً. منذ ليالٍ طويلة وهو لا ينام. لا يتوقف عن التفكير. ينظر إلى زوجته الراقدة بجواره. لم يرى منها ما يسيئه. يميل رأسه للوراء ويتنهد.

إنه يجر قدميه يوميا للذهاب إلى العمل. يعمل طوال يومه وهو شارد الذهن ويتحرك خلال يومه وكأن حجراً ثقيلاً على صدره حتى أنه يتنفس بصعوبة. يعود لمنزله مرهقاً. يجلس حول المائدة مع زوجته وأولاده. هي تتكلم كثيراً وهو ينظر إليها متظاهراً بالانتباه ولكنه لا يسمع شيئاً مما تقول.

تمر الأيام وهو على هذه الحال. يشعر بالإرهاق الشديد من كثرة العمل والفكر وقلة النوم. إنه ينهار تدريجياً.

نهض من الفراش بعد محاولات فاشلة للنوم. أخذ مفتاح السيارة وانطلق بها لا يدري إلى أين، حتى وجد نفسه عند بيتها. ظل في السيارة ينظر إلى شرفة منزلها في صمتٍ وحزنٍ دفين. إنه لا ينساها أبداً حتى بعد كل تلك السنين. لا يمر يوم دون أن يفكر فيها. إنه لم يقوى على التخلي عن مسئوليته تجاه أولاده وزوجته إلا أنه لم يستطع أيضاً أن ينساها ويمضي قدماً في حياته. لن تعود الأمور كما كانت. هو يتخيلها في كل وقت حتى حين يمارس الجنس مع زوجته...يتخيلها هي كي يشبع رغبته. كم يؤلمه الشعور بالعجز! ذلك الشعور الذي يقتل أي حياة في داخله حتى أصبح كالمومياء بلا حياة. دائماً يشعر أنه بلا حيلة...بلا خيار...ضحية للوضع الحالي وما أسفرت عنه الأيام. يظل ينظر إلى شرفتها في ألم إلى أن يطل الصباح فيرحل.

تخرج إلى شرفتها في الصباح الباكر، تستنشق هواء الصباح المنعش، تشرد بذهنها بعيداً فتعبس لوهلة ثم تبتسم. تدخل لتحضير الفطور ثم تفطر وحيدة في الشرفة، وسط الطبيعة التي طالما أحبتها. تقلب المحمول في يدها، مترددة، ثم تنظر إلى اسمه طويلاً على شاشة المحمول وتحرك أصبعها للضغط على نمرته، إلا أنها تبقيه معلقاً لا يصل للشاشة، ثم أخيراً تضع المحمول على الطاولة بعد صراعٍ طويلٍ مع النفس. إنها تفعل ذلك في كل يوم وكأنه جزء من روتينها اليومي.

يالها من مشاعر متناقضة، متضاربة، تلك التي تتعذب بها يومياً!  كم تسخط على ضعفه واستسلامه وتخليه عنها! إلا أنها تتعاطف معه وتحن إليه كثيراً وتشفق عليه لأنها تشعر به وتعلم أنه يتألم...إن ألمه يوجعها كثيراً، أكثر من عذاب ألمها هي. هي لا تستطيع أن تطلب منه أن يتخلى عن مسئوليته كما أنها لن تنعم بحبه إذا ُبنىّ على أنقاض مشاعر الآخرين. في النهاية، ماذا كان بإمكانه أن يفعل؟ لو كانت مكانه، ماذا كان بإمكانها أن تفعل؟....هكذا كانت تنهي الصراع الذي يدور بداخلها في كل مرة، بذلك السؤال الذي تجد فيه بعض العزاء لنفسها. يهون عليها كثيراً أن تُذكر نفسها بأنه لايزال يحبها حتى وهو مع امرأةٍ أخرى.

تمر الأيام ثقيلة...كئيبة...متشابهة. 

في كل يوم يعيش هو على أمل أن يحدث أي جديد؛ أن تطل هي من الشرفة فتراه، أو أن تتصل به لتقول له أنها موافقة على الاستمرار معه بأي وضع، أو أن تهجره زوجته، أو يحدثه أبناءه أن سعادته أهم من أي شيء وأنهم يتفهمون مشاعره ويعذرونه وسيظلون على حبهم له مهما حدث.

وتعيش هي على أمل جديد كل يوم؛ أن يرن الهاتف ويخبرها أنه هجر كل شيء من أجلها لأنه لا يقوى على الحياة بدونها، أو أن يخبرها أنه واجه الأمر بشجاعة وتغلب على ضعفه وواجه أسرته، أو ربما يفاجئها بأنه أنفصل عن زوجته لأسباب أخرى لا تمت لها بصله...خلافات كانت أصلا موجودة وأخفاها عنها فهو لا يتحدث أبداً عن أسرته معها.

في كل يوم، يولد أمل جديد ...ويموت. وفي كل يوم، ينتصر الإيثار على الحب وتنتصر التضحية على الأنانية.

وأشرقت شمس يوم عيد مولدها. خرجت منذ الصباح الباكر لتحتفل مع صديقاتها وسط الطبيعة. لا تريد أن تكون وحدها في ذلك اليوم فريسة للتساؤلات عما إذا كان سوف يتصل بها أم لا...لا ترغب أن يستفرد بها الخيال ويصور لها كل تلك المشاهد معه وما كانا سيفعلانه معاً.

عادت مساءً بعد أن شتتت نفسها، قدر المستطاع، طوال اليوم بصخب الفتيات. كلما راودتها الأفكار، أزاحتها جانباً. 

رآها من سيارته، حيث يستقر كل يوم، وهي تصعد لشقتها.

كانت على وشك النوم حين سمعت طرقاً على الباب. نظرت للساعة المعلقة على الحائط في تعجب. ذهبت إلى الباب وفتحته بحذر. إنه هو. إنها المرة الوحيدة التي لم تتوقع فيها قدومه فلقد توقعتها كثيراً من قبل ولم تحدث حتى يأست تماماً وماتت تلك الفكرة. فتحت الباب أكثر وظلت ساهمة، لا تصدق أنه هو، فربما كان ذلك هو خيالها مرة أخرى يصور لها رغباتها الملحة. ظلا ينظران إلى بعضهما البعض لفترة.

 كان يفتقد ملامحها بشدة. لا يصدق إنه يرى عينيها الجميلتين اللتين أحبهما كثيراً. وكأن في رؤيتها ما أعاد له الحياة وقد أوشك على الاحتضار. كان هزيلاً. عيناه مجهدتان. يبدو سقيماً لا يقوى على الوقوف. لم ينبسا بكلمة، وكأن الكلمات كانت تهرب من ذلك الموقف، لا تجد لها مكاناً. أحياناً يقول الصمت ما لا تستطيع الكلمات التعبير عنه.

كادت مشاعر الغضب تهيج بداخلها، فلطالما أرادت أن تصرخ وتلومه وتعبر عما بداخلها لتستريح من عبء تلك المشاعر وآلامها إلا أن مشاعر الشوق أردعتها، فغلبها التردد... فصمتت. حتى رأت ذلك الحزن العميق، الدفين في عينيه ولمحت بريق الدموع الذي يحاول أن يمسكه عن الانهمار، فكانت تلك بمثابة السكين الذي أنغرس في قلبها فلم تقوى على الصمود. 

ودون أن يعيا ماذا يحدث، ولأول مرة منذ زمن، يتخليا عن أي فكر ويتوقف الرأس عن التحليل. دفن رأسه في صدرها وانهمر في البكاء. إنه لم يبكي أمام أي إنسانٍ قط. وأحاطته هي بذراعيها بقوة وضمته إليها وكأنها تريد أن تخفيه عن الكون كله، عن جميع المخلوقات، واحتضنته حتى كاد أن يصبح جزءاً منها...حتى أوشكا أن يصيرا شخصاً واحداً...ثم أشرقت الشمس.

 

Comments

Popular posts from this blog

Coincidence By The River

حين ألتقت الأعين

حوار مع الله 2